هنا.. قريتي الصغيرة! والتي
أزورها منذ نشأتي كل عام، وذلك حين تقدم أمي لزيارة أمها، هنا.. تعرفت على وجه
الطبيعة البهي البهيج، وهنا.. تعلمت منطق الطير ولغة الأنعام، وهنا أيضا.. تذوقت
الثمار غضة طرية من أكمام الشجر، ثم هنا.. قرب هذا الوادي! أمضيت جزءاً من حياتي لا
أنساه، وها أنذا اليوم أجدد العهد الذي لا أخلفه، خصوصا وهذا فصل الربيع الذي أحبه
قد حار في حلته القشيبة، فاجتمع لي شرف الزمان والمكان.
لا تطلب مني أن أصف لك
الزهر ولا الشجر، ولا تسألني عن شيء من ذلك، فكله يسلب الألباب ويخلب العقول، إلا
أن شيئا ما تغير وتبدل هذه المرة! فأنا أحس أن الألوان هذا العام باهتة! والزهور
ذابلة! وخرير الماء حزين الدفقة! و تغريد الطيور يندب شيئا ما! فيا ترى أتغير شيئ
ما في قريتي! أم أنني من تغير فانقلبت الدنيا في عيني بهذه الضحالة والضآلة!؟ بهاتة
وباردة وحزينة!!
هذه عصفورة على غصن
مياد تراقص عصفورها، وهذا كبش أبيض الصوف يتجارى مع أنثاه، وهذا ثور يخور ويسمع
بقرته الحلوب، وهذا حمار يستظل مع أتانه في ظل زيتونة، وهذا شجر ذكر تميله الريح
على شجر أنثى، فكأنهما يتراقصان ويتناغيان ويتعانقان، فمن كل شيء خلق الله زوجين
اثنين، يتكامل نقصهما وتتطاير وحدتهما، لم يبق في هذا المنظر البديع الذي خلقه
الله سواي بدون أنثاه، ألهذا أشعر أن الحال غير الحال!؟ ألهذا ينقلب هذا العرس في
عيني جنازة محزنة؟ نعم هذه حقيقة الأمر، فأنا وحيد هنا! وقلبي يخفق مستشعرا بردا
قارسا وألما قاسيا، وإن كان الجو دافئا بيعث الحياة، ولكن أنى الدفئ لقلب تنقصه
الحياة!؟ شيئ ما بداخلي يهيجني على الصراخ!! فسأصرخ بأعلى صوتي: أنا أريدهــا!
ثم.. لم ألبث بعد صرختي، وسط هذه الروابي
الخضراء والمروج المترامية، حتى رأيت طيفا يقدم من مكان بعيد بعيد! من وراء الأفق
الفاصل بين خضرة الأرض وزرقة السماء، من مكان فيه آثار الأرض مجتمعة، فيه قصور
الملوك والأمراء، ذلك الطيف، كان طيف أنثايَ، فقد وقفتْ بالأفق حتى سدت منظره،
وطفقت تجر وشاحها الأصفر على الحقول، ترد إليها نضارة الألوان، تغني بغنائها الشجي
الأطيار والعصافير، تتحد نغامتها ونغماتهم على مقام الصبا، وتترقرق لرقتها مياه
الأنهار والجداول والعيون، لا تعجبوا! فهي تعرف جيدا فنون الجمال، بل جمعت في
قلبها كنوز الجمال، فتراها تنثرها على الأرض فتخضر سادتي! وتحمر! وتصفر! وقد أجَّتْ
فيها أنواع من الورد لم تعهدها قريتي، ولم تر مثلها عيني، ومضت مقبلة عليّ، وعلى
ثغرها بسمة أحلى من بسمة الربيع، مغضبة تعاتبني عيناها، تسير الهوينى على مهل،
تشير مستفهمة بيديها، كيف رضيت عني هذا الغياب!؟ فتقدمت إلي، وعانقني طيفها عناق الغريب القريب،
فشممت منها روائح الأمانة والعزة والنخوة والعفاف، وشممت منها نشب المودة والرحمة
والأنس والمحبة، ثم استلقت بجانبي مفترشة شعرها الأسود المرسل، تطوي فستانها تستر
به بياض قدميها، وقالت بصوت يملؤه الحنين:
تزعم أنك تحب!! وقد تركتني هناك وحيدة على الجمر أنتظرك، أنت كاذب إذن أيها العاشق
المزيف، تلفي هذا المنظر الجذاب وتتفرد به دوني؟ بئس الحب حبك وبئس العشق عشقك، ثم
ارتسمت على وجنتيها حمرة كالوردة التي تحملها بكفيها، ثم تحولت ببصرها خجلا! أما
أنا يا سادتي فقد ألجمني جمالها، وأخرسني دلالها وبهاؤها، فخدود وجنتيها كحَبِّ
الرمان احمرارا، خجلا وحياء من كلماتها الصريحة، وعيناها كأنها جنان وخلجان،
وأهدابها كجريد النخل، أما شفتاها فكأنها فم قارورة من بلور وردي، يعكس نور الشمس
الذي يفترُّ من ثغرها، فكيف إذن أتكلم! فلا تعجب أن ساد السكون المكان وتركنا
المجال للطبيعة أن تعزف لحونها، وتترنم بفنونها، ثم استلقيت وإياها على البساط
الأخضر، وهنا أدركت فقط أن الطبيعة من دونها لا تساوي شيئا! فهي حقا ملونة الفصول،
وصرت أرى الدنيا بعين أخرى، وأرى منظرا لا يوصف سادتي ..
بقلم: علي المرضي
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء