حديث ليلة
الحمد لله الذي هدى، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة ومرشدا، و
على آله وصحبه ومن اقتدى، أمٌا بعدُ:
فقد انطلقنا من باريسَ على متن الطائرة المشحونة، في رفقة الحجيج
المصوِّت، متوجهين إلى مدينة رسول الله، من أجل طلب العلم، وعند نزولنا بمطار
المدينة، استقبلنا بعض الطلاب النيجيريين، لقيادتنا إلى الجامعة الإسلامية.
دخلنا في أول الليل، وكان
أولُ ما فعلنا، التوجُّه إلى لجنة الاستقبال، ليُعيَّن كل واحد منا في غرفته، فقدَّر
الله لي أن أكون مرافقا معاشرا لأخ عزيز اسمه عماد، هو أيضا من فرنسا؛ صعدنا إلى
الغرفة، اختار كل واحد منا شِقَّهُ، وحُطَّت الرِّحال، واستراحت الأبدان، وأَنِسَتِ
القلوب، وانشرحت الصدور.
كنا خلال عشرتنا، إذا آوى
كل منا إلى فراشه ليلا، لا نُغمِضُ، حتى يقص أحدنا على الأخر تجربة من تجارب الدهر؛
وفي ليلة من تلك الليالي البيضاء، وقد عمَّ الجوَّ سكون، والقمر ساد النجوم، وقد اخترق
نوره السحب والغيوم، تبقَّتْ ثلاثُ ساعات لطلوع الفجر، إذ قال لي سميري: دعني أقص
عليك قصة، قلت وقد غلب النوم أجفاني: فلتتفضل …
الآن بعدما أطلقت لساني، هاكَ قصةً عشتها بنفسي، وشاهدتها بعيني،
قصةً تحمل في صدرها حزنا وسرورا، وعلى ظهرها طاعة وفجور، فأجلسني الشوق لسماع ما
يحكيه، وتأهبت أتلقى ما يرويه، فانطلق قائلا: "عندما أشرقت على نفسي شمس
الهداية، وحرّك نور القرآن جوارحي للعبادة، وأنا ذو السابعة عشرة آنذاك، كان يدرس
معي أحد الإخوة الفضلاء، اسمه شفيق، كان كريم النسب، شريف المقاصد، مستقيم الطريق،
كريم الأخلاق، مصون العرض، محافظا على صلاته، غاضٌا لبصره، بارًّا بوالديه، لا
تكاد الابتسامة تفارق وجهه المنير، فما كان لي إلا أن أتخذه رفيقا وخليلا، أشركته
في أمري و شُدَّ به أزري، وكانت النساء تفتتن به، غير أن نور الصلاة كان يحرق
أبصارهن، وحصن الحياء يردّ كيدهن.
مرت حقبة من الدهر، وقلبي يأنس برفقته، فقد كان لي على الخير معينا،
إذا أدركتنا الصلاة في المدرسة، نصبنا السجادة فأمني أو أممته، وإذا تفقهنا علمني
أو علمته، وإذا سقطت، أنهضني، وإذا سقط أنهضته، كنا كاليد والعين، إذا دمعت عيني
مسحت يدُه دمعي، وإذا تألمت يدي، دمعت عينه لأجلها، هكذا كنا نعيش، عيشة ساكنة
مطمئنة بريئة، كما يعيش التوأم في بطن أمه، فمازلنا نسير بأسعد طائر، وأكرم صاحب،
حتى جاء ذالك اليوم، حيث بدأ شفيق يميل إلى الكاسيات العاريات، غيرَ مبال بموعظة،
ولا موت، ولا بشيء مما هو آت، فجعل يتَّبع خطوات الشيطان، قعد له اللعين و جنوده
بالرصد، حتى حُمل على المهالك، ليهتك المحارم ويأتي العظام؛ هديته فغوى، نصحته
فتعامى، وضاق صدره بالعصيان والغفلة، حتى أخذ الإيمان يغرب عن قلبه، كما تغرب
الشمس عن أهل الأرض، وأثقلت الذنوب ظهره،كما يثقل الحِمْلُ ظهرَ البعير، وها هو ذا
قد تولى عن طه وصاد، ونسي يوما فيه الحصاد، حزنتُ ولم أجدْ من يحزن لحزني، بكيتُ ولم
أجدْ من يبكي لبكائي، واقلباه! واقلباه! واقلباه.. ! وأنا أراه ينفلت مني، كما
تنفلت الإبل من العقال؛ أراه يسلك سبيلهن، ويركب طريقهن، ويمتطي شهواتهن، ويرتوي
من خمرهن، ولا أملك له من الله شيئا..
مكث شفيق حقبة من الزمن
على هذا الحال، يتدهور حاله يوما بعد يوم، شهرا بعد شهر.." عند هذا الحد من القصة استعجلت، فزعت! وقلت: يا عماد! هل تاب شفيق
لينجو من سقر!؟ أرجوك بادر! نبئني ما الخبر! وفي سقف غرفتي يتقلب البصر، فأجابني
عماد قائلا: "أثبت وأمعن النظر، لم يطلع الفجر ليظهر الحجر، فدعني يا أبا
سهيل أقص العبر..: ساءت أحوال شفيق، وفحُشت أقواله، فقلت في نفسي يجب أن أسد الخلل
مرة أخرى، وإن رفض وزجر. فبينما أنا أتجول في شِعَب باريسَ، إذ يقدر الله لي أن
ألتقي بشفيق، سلمت عليه، فرَدَّ عليَّ سلاما لا رفق ولا ود فيه، وقد أظلمت غيامة
اللؤم وجهه الذي طالما كان منيرا، واصفرت عيناه بالدخان، اللتان طالما كانتا بريقا،
واسود سِنُّه الذي تصدق به على وجهي كثيرا، تكدّر صفاؤه، وخمد نوره، وانمسخ جماله،
فبينما أنا أرثي حاله، أخذ يتسلل مني شيئا فشيئا،كما يتسلل الثعبان من جحره،
فأمسكت يده بقوة فيها رفق وحنان، كما تمسك الأم يد ابنها لتكفّه عن الضرر، ثم
ضممته إليّ ضمةً خفق لها قلبي، واقشعر لها جلدي، حيث ذكرتني بأيام ود ورفق، مضت..
ولكن لم يلبث ذلك الطرب والخفقان، إلا أن أبردته رائحة الخمر والدخان، الفائحة منه،
فقلت في نفسي والله لن يصدني حالك، عن أن ألقي عليك رقتي، فأمسكت يده، وأمسك يدي،
قلت: حبيبي شفيق! أأنت هو ذلك الشاب الذي كان على صلاته محافظا!؟ و بمكارم الأخلاق
متصفا!؟ وإلى الخيرات مسارعا؟ ولأثار الأسلاف مقتفيا؟ فأين النور الذي كان يسطع من
وجهك الشريق!؟ وأين طيب الكلم الذي كان يتلفظ به لسانك الرقيق!؟ و أين لحيتك الـمُسْبكِرَّةُ
على ثوبك الأنيق؟ وأين بياض سنك الذي طالما حال بيني وبين كل هم وضيق؟ أضللت
الطريق! أم ريحٌ هوتْ بالكَلِّ إلى مكان سحيق!؟ فدعني أذكِّرك، وأصغ يا رفيق..
أذكرتَ يومَ أممتك، فتلوتُ آية النار والحريق؟ فإذا بك، لك أنين وشهيق؟ أذكرتَ يومَ
كنا ذاهبين إلى الدرس، وجاءت تراودني تلك البنت الفُسَيِّقُ، فحُلتَ بيني وبينها، كما
يحول الفارس الشجاع بين القافلة وقاطع الطريق، قائلا لها: إليكِ عنه أيتها المومسُ،
أُغربي عنا يا قاطعة الطريق، فانه لي صديق، و هو تحت العرش لي رفيق..
فبينما أنا أعظه إذ انفجرت دمعة من عينه، كانت قد أسرتها القسوة،
سالت على خده، وتسللت بيت شعيرات لِحتيه، لتسقط على يدي ،فكادت تذيب جلدي، واصلت
وشددت يده بقوة وحرارة، يا شفيق! يا شفيق! أرجو ألا تكون قد دخلت كهف الشقاء، وسددت
بابه بصخرة الغفلة، يا رعاك الله، فأنت الذي طالما ذكرتني بقوله تعالى:﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ تُبْ إلى الله، تضرع إليه، أصدق ربك يصدقك، أسجد له، وقل: « ربي إني
ظلمت نفسي وإن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين»، لو فعلت بصدق، لوجدته توابا
رحيما، واذكر أن الموت حق، وأنك ستسأل عن كل صغيرة وكبيرة، وعن ما أخفيت وما أعلنت،
وعند ذكر الموت برد جسمه، ليبردني، فسالت دمعة أخرى، أحرّ من الأولى لتحرقني، والله
لن ينفعك أصحابك الذين تظل معهم تلهو وتلعب، و لا صاحباتك اللائي تظل في جنبهن
تمرح وتطرب، سيتبرؤون منك كما تبرأ إبليس من قرينه، إن لك إلى القبر زيارة، في
انتظار قيام القيامة فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، حاسب نفسك،
وانظر إلى حال قلبك في دنياك، فإنه حالك في قبرك، إما شقاء وإما سعادة.. هنا شعرت
أن يديه قد استرختا، ولم يرد سماع قولي بعدُ، حتى أَطلق يدي قائلا: والله إني لأرى
أنك على حق، ولكن قلبي لا يفقه كثيرا مما تقول، فكان ذلك آخر ما سمعته من شفيق..
خَلتِ الليالي، ودرج الوقت، وأنا أترقب دخوله إلى المسجد في كل
صلاة، ويا ليت تلك الغاية تنقشع، يا ليته يقلع عن الفعل البشع، و لكن.. واأسفاه!
لم يزل في خوضه يلعب، وفي فلك العصيان يسبح، حتى نبؤوني من أخباره، ويا ليتهم ما
نبؤوني..
أُخبرت أنه كان له صديق
حميم، اسمه "مارك"، كان معينا له على الفسق والفجور، كانا لا يفترقان،
ينامان معا، ويقومان معا، يأكلان معا، لا يخرجان إلا معا، ولا يدخلان إلا معا، وفي
ليلة من تلك الليالي التي تعودا فيها على الخروج إلى "النيات كلوب"
ليقضوا فيه ليلتهم، بين رقص وغناء، وشراب وسكر، وفاحشة ومنكر، وعندما فرغوا من
لهوهم هذا، توجهوا إلى محطة القطار، لعلهم إلى بيتهم يرجعون، فبينما هم جالسون على
كراسي الإنتظار، مترقبين مجيء القطار، إذ أخذ النوم "مارك"، الذي اضطجع
على كرسيه، حتى أيقظه ضجيج تشاجر حبيبه شفيق مع بعض المشردين، فقام مارك، ودافع عن
صاحبه، فانصرف الخصوم وعاد إلى مكانه، ليأخذه النوم مرة أخرى، وكانت الخمر قد
أثقلت مفاصله، حتى صار في نوم عميق، وعندما أفاق من نومته الثانية، لم يجد بجنبه
شفيق، لم يجد عشيره وصديقه، فافتتن وجعل يضرب بيديه على الكرسي وهو يلهث، مناديا: شفيق أين أنت!؟ يا شفيق!" وقف يبحث عن حبيبه وهو يميل سكرا، فإذا
به يبصر صاحبه وخليله على سكة القطار، منشورا يابسا، قد صعقه الكهرباء، بعد أن
ألقاه فيها خصمه، فصعق صعقة أذهبت سكره، وأعادت له عقله، وأسرع نحو شفيق يحركه
بقوة، لعله يحرك ساكنا: "شفيق! قم يا شفيق!" وجعل يضغط على
صدره، لعل الدم يجري إلى دماغه، ولكن الدم لم يعد يجري.. ناداه أخرى، وله شهيق من
البكاء، فلم تجبه إلا الموسيقى الشغالة من مكبرات المحطة. أخذت السماء تمطر
غزيرا، وقف على ركبتيه، ورفع رأسه إليها يعوي عواء الذئب ليلة البدر، ثم حط رأسه
على صدر شفيق، فأغمي عليه إغماء، لم يقم منه إلا بعد سنتين.
قال لي عماد :" قلت في نفسي: هكذا خُتم
لك يا شفيق، كذبت ظنونك يا شفيق، وبطل يقينك، دعوتك إلى الرشد فأبيتَ، دعوتك إلى
المجد فرفضت، دعوتك إلى الحياة فوليت، فلم تلبث إلا أن ألقيت بنفسك إلى المهلكة،
ما كفتك نيتك التي ظننتها حسنة، لأن الدين إيمان وقول وعمل. كنت طيبا، أراك الله
الطريق فاعوججت، أذاقك الله حلاوة الإيمان فلفظت، وخُلع عن ربقتك الإيمان، وعَلقت
بحبال الشيطان، وزهقت روحك وأنت سكران، أين جهدك؟ أين قوتك؟ قد انكفأت قواك، ووهت
أسبابك، وغُلب جندك، وزلت وطائدك، فانطفأت شمعتك، وتبرأ رفاقك، أُشهد الله أني لم
أدخرك بِرا، واشهدْ على نفسك أنك وليت مدبرا، فما كان الله ليظلمك، ولكنك يا شفيق
كنت نفسك تظلم. كل ما ملكته فني، و ما يبقى إلا وجه ربك الأعلى، قلت :يا عماد! وقد
بُلَّتْ وِسادتي دموعا، دعني أخرج أغسل دموي، فأجابني: أثبت مكانك لم
أُنهِ بعد...
أصيب مارك بأزمة نفسية،
طالت به سنتين، فقد وعيه، صار مجنونا مأفونا، لا يبيت إلا في الشارع، ولا يتقوت
إلا مما يسرق، وفي ليلة من الليالي، ركبتُ الحافلة "الباص" رايحا إلى البيت، فوجدت فيه مارك يتسول، دنوت
منه، وأنا مترقب رده، وقلت وأنا أمد يدي: "مارك
أعرفتني أنا عماد" ... لعله يذكر أيام كنا نلعب الكرة معا في الحي، فدفع يدي
وأراد أن يضربني، هنا.. علمت أنه لم يزل في جنونه مغموما، توليت عنه، ورفعت كفي إلى
الله داعيا الله له بالهداية، و أنا على يقين أن الله سيحدث بعد ذالك أمرا.
مرّ على هذا الموقف سنة كاملة، حتى جاء يوم من أيام رمضان، وبينما
أنا جالس في المسجد أنتظر صلاة العشاء، إذ أرى أخا ملتحيا، واقفا يصلي ركعتين،
فألفت صورته، وقلت في نفسي لعلي أعرفه، انتظرت حتى سلم، فدنوت منه مسلما، قلت: كيف
حال أخينا العزيز؟ فأجابني برفق ولين خافتا بصوته؟ " أنا بخير" قلت:
أعرفتني ؟ قال لي: لا والله لم أعرفك يا أخي، وجعل يعتذر اعتذارا يخفي في طياته
سنتينا من الجنون والسفه، فردد: "لم أعرفك أخي، أعذرني فإن حوادث الدهر
أنستني كل قريب"، فناديته: "مارك !!!" فهز رأسه متفاجئا وقد أدرك
أن هذا الصوت يألفه، وتذكر أيام اللعب في الصغر، أيام الصبى، أيام الكرة، عندما
كنت أناديه، فقال: آنت عماد!؟ قلت: "نعم أنا هو"، فقمنا يعانق بعضنا
بعضا وقد أجهشنا بكاءً، فقلت: "أخي! ما الذي جرى لك؟ قص علي أمرك، فوضع كفه
الرطبة على كتفي، وقال: "لعلك تعلم ما أصابني بعد موت شفيق؟" قلت: "نعم
نعم" فواصل قائلا: "عندما كنت على حالي التي أستحيي أن أصفها لك، سطوت
على بيت من بيوت الأغنياء، لأسرق منه ما أتقوت به، فأمسكني صاحب البيت، ورفعني إلى
القاضي، فحكم علي بسنة سجنا، وكان السجن أحبَّ إلي مما كنت فيه، إذ التقيت فيه
بأحد الإخوة المؤمنين العابدين، فأهداني قرآنا، فبادرت بقراءته، وتدبرت معانيه،
فما خرجت من السجن إلا وقد أسلمت لله رب العالمين، وأنا اليوم اسمي عيسى، ولا زلت
أتذكر شفيق كل يوم، و الحمد لله رب العالمين .
تذكرت قول الشاعر أبي العتاهية : موت بعض الناس في الأرض (()) على
البعض فتوحُ
صار عيسى من أطيب خلق الله يضرب به المثل في الحلم والأخلاق .
هنا أذن المؤذن لصلاة الفجر، وقال لي عماد: "ألم اقل لك اصبر
حتى يطلع الفجر، ويظهر لك ما لم يكن يظهر"، قلت: "بارك الله فيك أخي
عماد دعني أفرغ هذه القصة ليعتبر أولو الأبصار". قال لي: فلك ذلك وعليك أن تفرغها.
كتبه: أبو سهيل بن محمد المديني
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء