لم تزل صورة ذلك
الصبي الحلبي بين عيني من حين رأيتها، فما كانت حالي إلا مثل حاله: صدمة وحيرة
وخوف وقلق... لم أكن أدري كيف أخرج ردة فعلي التي جعلت أعالج لواعجها في صدري؛ لم
أكن أعي مقدار هذا التنازع النفسي داخلي إلا حين خرجت من أعماق صدري ضحكات مجروحة،
تبعتها زفرة كادت تشق كبدي..
لقد نظرت إلى عمران
بعين الآن وبعين المستقبل، وقلت لنفسي كيف يصير حال عمران وأمثاله بعد عقود آتية
من الزمن؟ هل سيكون هذا الجيل الذي عاش الحرب مثل جيلنا؟ هل سيكون جيل خوف وخضوع
وخنوع واستسلام كجيلنا؟ هل سيبيع كل تضحياته ويشتري حياة ذل وقناعة بأي حياة؟
لم يبك عمران لأنه رأى
وعاين أن البكاء لا يرد حبيبا ولا يصلح تالفا، فقد أدرك -بدروس الحرب- أن الصبر هو
سلاح الصمود الذي يملكه، وأيقن أن الفرج بيد الله وحده لا بيد غيره، فصنع عمران
لنفسه في نفسه مأتما، وتركنا -إذ لم ينفس ببكائه نحترق-..
بعد عشرين أو ثلاثين
سنة.. لا أدري فالغيب عند الله، سنرى عمران وأمثاله رجالا حقيقيين، أبطالا في كل
الميادين، فالمعاناة ستصنع منهم أفذاذا لا قِبل لأحدهم بإخضاعهم أو هزيمتهم أو
شراء ذممهم، فسواء كان عمران مقاتلا، أو تاجرا، أو طبيبا، أو غير ذلك. سيبصم مكانه
في التاريخ وسيصوغ اسمه من ذهب لا ينساه العالم، أليس هكذا كان حال كل عباقرة
العالم وأبطاله؟
سيكبر عمران -إن قُدر
الله ذلك- ليحمل رسالته للعالم، لينشر مبادئه، وليرسم خريطة الشام التي يريد، لن
يقف بشار ولا روسيا ولا الغرب ولا الشرق أمام عزيمة رجل، كانت في حياته مواقف مثل
هذا الموقف العجيب، سيكون مثل خالد بن الوليد أو مثل قطز أو بيبرس، أو مثل غيرهم من
السادات العظام، سيكون اسما لامعا على جبين التاريخ، وسيحرر الناس من الألم كبيرا،
كما حرر نفسه من بكاء الألم صغيرا..
هل تظنون أن عمران
مسكين؟؟ بلى فنحن -رضاع الخضوع- هم المساكين لو تعلمون...
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء